مع ذلك، فإنَّ امتلاك أخلاقيات مهنية رفيعة، أو شخصية جذابة، أو مهارات إقناع عالية، لا يكفي وحده ليصنع قائداً حقيقياً، فالقيادة الفاعلة في ميدان العمل تستوجب إتقان تقنيات الكوتشينغ المؤثرة. يُعَد الكوتشينغ عنصراً جوهرياً في تطوير الموارد البشرية، وينبغي أن يكون جزءاً أساسياً من كل برنامج تطوير داخلي، مع تدريب المديرين والمشرفين على آلياته وتطبيقاته بفعالية.
لماذا يُعَد الكوتشينغ نهجاً قيادياً ناجحاً؟
يقوم الكوتشينغ على مبدأ تمكين الأفراد وتعزيز استقلاليتهم، والسعي إلى استكشاف وإطلاق طاقاتهم وقدراتهم الكامنة. فعندما يتبنى المديرون هذا النهج، فإنَّهم يضعون الموظف في موضع المسؤولية، ويفسحون له المجال ليقود قراراته متى أمكن ذلك.
فمن خلال تحمُّل مسؤولية النتائج، تنمو لدى الموظف مشاعر الثقة بالنفس، ويقوى اعتزازه بذاته. تشكل هذه الثقة محركاً للنمو الشخصي المستدام، وتعزز الوعي الداخلي، وتُوقظ الحافز الذاتي، مما يُسهم في بناء ثقافة مؤسسية صحية، قائمة على جودة العلاقات والارتقاء بالإنتاجية.
الكوتش ليس مجرد مشجِّع يُكثر من عبارات الإطراء والتصفيق مع كل إنجاز، كما أنّه ليس قائداً متصلّباً لا يعرف سوى الأوامر والتوبيخ. بل إنَّ الكوتشينغ الفعال يقوم على توازن دقيق بين عناصر متعددة: التوجيه، والتحفيز، والدعم، والتحدي، والتغذية الراجعة البنَّاءة.
ضرورة تدريب المديرين الجدد على ممارسة الكوتشينغ
كشفت دراسة أجرتها شركة "أديكو ستافينغ" (Adecco Staffing) قبل سنوات في الولايات المتحدة أنَّ 92% من المديرين التنفيذيين يشتكون من نقص مهارات القوى العاملة لديهم.
يُعد هذا التقدير صحيحاً في كثيرٍ من الأحيان، ولكنَّ الإدارة العليا نفسها مطالبة بالاعتراف بوجود فجوة مماثلة في المهارات بين صفوفها. غالباً ما تتركز هذه الفجوات في ما يُعرف بـ"المهارات الناعمة"، وتحديداً مهارة الكوتشينغ، التي سُلِّطت عليها الأضواء في دراسات عديدة.
فعندما يبدأ المديرون الجدد رحلتهم في التكيف مع أدوارهم القيادية، قد لا يكون لديهم وعي دقيق بالفروق الجوهرية بين "الإدارة" و"الكوتشينغ". فهم بحاجة إلى أن يتعلموا كيف يحققون التوازن بين تقديم التوجيه والكوتشيتغ، من أجل استخراج أفضل ما لدى موظفيهم، وفي الوقت نفسه، فإنَّ هؤلاء المديرين أنفسهم يحتاجون إلى من يُرشدهم ويُقدّم لهم الكوتشينغ من قادتهم.
فبناء بيئة عمل تقوم على الإرشاد المتواصل وتطبيق أساليب كوتشينغ فعالة هو ضرورة ملحة في مستويات المؤسسة المختلفة.
أهم النصائح لتطبيق ممارسات الكوتشينغ في مكان العمل
في ما يلي، 5 نصائح لتطبيق الكوتشينغ في مكان العمل:
1. ركز على الثقة المتبادلة
لا تُبنى الثقة بين القائد وموظفه بين عشية وضحاها، بل تنمو تدريجياً، وهي علاقة متبادلة. فمع تزايد المسؤوليات التي يتولاها الموظف، يبدأ القائد في تقييم مستوى التزامه وكفاءته، ولكن يجب مقاومة الميل إلى التدخل في كل تفصيل، فالأخطاء والإخفاقات جزء طبيعي من العملية، ويجب النظر إليها كفرص للتعلُّم.
دور القائد هنا هو أن يقدم تغذية راجعة صادقة ومنفتحة، ويُرشد الموظف لتحسين أدائه مستقبلاً، مما يعزز الثقة المتبادلة بمرور الوقت.
في المقابل، فإنَّ صدق القائد وشفافيته يزرعان في نفس الموظف شعوراً بالأمان والثقة بأنَّ هناك من يؤمن به ويحرص على نجاحه. عندما يدرك الموظف فعالية التوجيهات في تحسين أدائه مع مرور الوقت، تتعزز ثقته بنفسه وبقائده، ويزداد اقتناعه بجدوى أسلوب الكوتشينغ.
2. راعِ اختلاف احتياجات الموظفين
يأتي كل فرد في المؤسسة من خلفية فريدة من نوعها من ناحية المهارات، والخبرات، والتجارب، ومن الهام أن يقيِّم المدير أعضاء فريقه لتحديد نوع الكوتشينغ المناسب لكل واحد منهم. كما أنَّ مدة وجود الموظف في المؤسسة تُعد عاملاً مؤثراً في أسلوب التعامل معه.
عادةً ما يُصنَّف الموظفون إلى 4 فئات: مبتدئون، ومساهمون، وعناصر رئيسة، وقادة، ويعتمد هذا التصنيف على خبرة الموظف ومدى انخراطه في الفريق.
الهدف من الكوتشينغ هو تمكين الأفراد من الانتقال التدريجي من مستوى المبتدئ إلى مستوى القائد، مع الأخذ بالحسبان اختلاف احتياجات كل فئة من ناحية الدعم، والتحفيز، والتمكين. إنّ أي خلل في فهم هذا التوازن قد يؤدي إلى نتائج سلبية، كالإحباط، أو الارتباك، أو فقدان الحافز.
على سبيل المثال، يحتاج الموظفون المبتدئون إلى كثير من الشرح والإرشاد، ويجب تشجيعهم دون الإفراط في المديح قبل أن يُظهروا أداءً فعلياً يبرر ذلك. أما المساهمون الذين تجاوزوا مرحلة التعلُّم الأولى وبدأوا في إثبات كفاءتهم، فهم بحاجة إلى مزيج من التقدير والتحدي كي يستمروا في التطور.
يُعد إدراك موقع كل موظف على هذا الطيف، ومتابعة تقدمه أو تراجعه، ركيزةً أساسيةً في الكوتشينغ الفعال، فالكوتش المتمرس يعلم أنَّ الموظفين قد يتنقلون بين هذه المراحل بفعل ظروف متغيرة.
فقد يكون أحدهم عنصراً رئيساً، ثم يُعاد هيكلة الفريق أو تندمج الشركة في كيان جديد، فيجد نفسه أمام دور جديد تماماً، ويشعر وكأنّه يعود إلى نقطة البداية. على الكوتش اليقظ أن يتعامل مع هذا التغيير بدعم وتفهُّم، ويعمل على ترسيخ المرونة النفسية لدى الموظف.
هناك عوامل أخرى ينبغي أخذها بالحسبان، مثل نمط شخصية الموظف بحسب نموذج "ديسك" (DISC)، فطريقة التعامل مع نمط الهيمنة "D" تختلف جذرياً عن أسلوب التعامل مع نمط الثبات "S". تعديل الأسلوب وفقاً لهذه الفروق هو ما يميز القائد الناجح.
3. نمِّ الوعي الذاتي بدل الإكثار من النقد
رغم أنَّ الموظفين يتعلمون من أخطائهم، إلا أنَّ النقد ليس الأداة الأنسب لتحقيق هذا الهدف، ومن الأفضل أن يعمل القادة على تنمية الوعي الذاتي لدى موظفيهم.
فبعد إنجاز مشروع ما، اطرح على الموظف 3 أسئلة جوهرية:
- ما الذي سار على ما يرام؟
- ما الذي لم يعجبك أو لم يكن بالمستوى المطلوب؟
- ما الإجراء الذي ستنجزه بطريقة مختلفة في المرة القادمة؟
علِّمهم كيف يطبقون الكوتشينغ على أنفسهم، ويمكن في بعض الحالات توثيق الدروس المستفادة لكي ترجعوا إليها مستقبلاً عند الحاجة.
الفِرَق عالية الأداء هي تلك التي تربط بين التفاصيل وتفهم الصورة الشاملة، والغاية من الكوتشينغ هنا هي تنمية مهارات التفكير وحل المشكلات، لا فقط تنفيذ التعليمات.
يساعد الوعي الذاتي الموظفين في تحديد المهارات التي تحتاج إلى تطوير، ويحفزهم على الانخراط في برامج التدريب الذاتي، مما يدعم بناء ثقافة مؤسسية قائمة على التعلم المستمر، ويُسهم في تعزيز مواطن القوة لديهم.
4. تحدَّ طريقة تفكير الموظف
لا يقتصر الكوتشينغ الفعال على تلقين خطوات إنجاز المهمة، بل يشمل أيضاً توضيح آلية التفكير والتخطيط الاستراتيجي.
يمكن للأسئلة المفتوحة والمواقف التي يُمنَح فيها الموظفون حرية اتخاذ بعض المخاطر المحسوبة، أن تعزز ثقتهم بأنفسهم وتفتح أمامهم أبواب الإبداع في إيجاد حلول جديدة.
لكنَّ هذا لا يعني أن تغفل عنهم، على سبيل المثال، إذا اختصر أحد الموظفين مهمة ما بتجاوز خطوة بدت له غير ضرورية، وتسبب ذلك لاحقاً في مشكلة تشغيلية، فإنَّ دور الكوتش هنا هو مساءلة طريقة تفكيره، وشرح تبعات قراره، ومساعدته على ابتكار بدائل تحقق الكفاءة دون الإضرار بجودة العمل.
يعزز توضيح أهمية دوره في سلسلة العمليات داخل المؤسسة شعوره بالمسؤولية، فحين يدرك الموظف أنَّه ليس مجرد ترس في آلة، بل جزء محوري من منظومة مترابطة، يصبح هذا الإدراك دافعاً ذاتياً قوياً.
5. كن منفتحاً لتلقي الكوتشينغ والتغذية الراجعة
حتى الكوتش نفسه بحاجة إلى من يساعده، فقد تتعرض لمواقف لا يستجيب فيها أحد الموظفين لأسلوبك المعتاد، أو تكتشف أنَّ طريقة نجحت مع موظف لا تصلح مع غيره، وهذا أمر طبيعي.
طالما أنَّ جوهر الكوتشينغ يقوم على تقديم تغذية راجعة للموظف، فمن المنطقي أن يتقبل الكوتش هذه التغذية هو أيضاً. فعندما تسود ثقافة الكوتشينغ في بيئة العمل، يصبح من الأسهل التعامل مع الملاحظات دون شعور بالتهديد. فكما تُشجع فريقك على التطور، ينبغي أن تجعل من تطورك الشخصي ككوتش جزءاً لا يتجزأ من رحلتك القيادية.
في الختام
الكوتشينغ مهارة جوهرية في فن القيادة، لكنَّه ليس بالفطرة، ولا يُولد به الإنسان، والخبر السار أنَّه قابل للتعلم والإتقان مثل أية مهارة أخرى. فمع الوقت والممارسة والتأمل الذاتي، يمكن لأي قائد أن يصبح كوتشاً حقيقياً يوقظ الطاقات ويقود الآخرين إلى أعلى مراتب الأداء.
أضف تعليقاً