وهكذا وقع لكل أمة سقطت في قبضة القهر ونال منها العسف وعدّه في كل من يملك إمرةً عليه. ولا تكون الملكة الكافلة له رفيقةً به، وتجد ذلك فيهم استقراء. وانظره في اليهود وما حصل بذلك فيهم من خلق السوء حتى إنهم يوصفون في كل أفق وعصر بالخوارج ومعناه في الاصطلاح المشهور التخابث والكيد وسببه ما قُلناه.
فينبغي للمُعلِّم في مُتعلِّمه والوالد في ولده ألّا يستبدا عليهما في التأديب. وقد قال محمد بن أبي زيد في كتابه الذي ألفه في حكم المُعلِّمين والمُتعلِّمين: "لا ينبغي لمؤدب الصبيان أن يزيد في ضربهم إذا احتاجوا إليه على ثلاثة أسواط شيئاً" ومن كلام عمر رضي الله عنه: "من لم يؤدبه الشرع لا أدبه الله". حرصاً على صون النفوس عن مذلة التأديب وعلماً بأنّ المقدار الذي عينه الشرع لذلك أملك له فإنه أعلم بمصلحته.
ومن أحسن مذاهب التعليم ما تقدم به الرشيد إلى مُعلِّم ولده. قال خلف الأحمر: بعث إليّ الرشيد في تأديب ولده محمد الأمين فقال: "يا أحمر إنّ أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه وثمرة قلبه فصير يدك عليه مبسوطة وطاعته لك واجبة فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين. أقرئه القرآن وعلمه الأخبار وروّه الأشعار وعلمه السنن وبصِّره بمواقع الكلام وبدئه وامنعه من الضحك إلا في أوقاته وخذه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا عليه وارفع مجالس القواد إذا حضروا مجلسه. ولا تمرنّ بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه فتميت ذهنه. ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه، وقوّمه ما استطعت بالقرب والملاينة فإن أباهما فعليك بالشدة والغلظة".
ابن خلدون رحمه الله
المصدر: حلقات تحفيظ القرآن الكريم
أضف تعليقاً