التعليم في اليابان

إن المتأمل في وضع الدول حالياً يرى التقدُّم العلمي الهائل الضخم الذي تعيشه اليابان، وقد لا يختلف اثنان في توافر الجودة والدقة والتميُّز في الماكينة اليابانية، والأغرب من ذلك حين تعرف أنّ تاريخ هذا التقدُّم ليس طويلاً بل هو قريب وحديث عهد. وأرجع المؤرخين ذلك التقدُّم والازدهار إلى مأساة قنبلة هيروشيما، إن صح أن ننظر إليها بوصفها مأساة، فقد كانت هي نقطة التحوُّل والصعود بل المنافسة على تاج التميُّز والاختراع والإبداع.

 



قد لا يخلو بيت الآن من منتج ياباني، وقد لا تخلو دولة من سيارة يابانية. لن أتحدَّث عن اليابان بوصفها دولة وما تمثله من تقدم ورقي وجودة وصناعة، بل دعونا نلقِ نظرة على سر ذلك التقدُّم وسر ذلك التطوُّر والازدهار، إن السر يمكن بلا شك في الإنسان الياباني. وإن تأسيس الإنسان الياباني يعتمد بشكل كبير على مدرسته وعلى التعليم الذي يتلقاه والذي بدوره يحول هذا الطالب إلى مخترع أو منتج أو مبدع وفي الأخير إلى شخص له دور في الحياة ليكون مؤثر فيها.

 

أضع بين يديك أخي القارئ الكريم هذا التقرير عن المدارس في اليابان وعن نظام الصف الدراسي هناك:

يتطابق عدد سنوات الدراسة في كل من السعودية واليابان وذلك في كافة المراحل، حيث يبدأ التعليم الأساسي في اليابان من المدرسة الابتدائية ومدتها (6) سنوات، والمدرسة الإعدادية ومدتها (3) سنوات، والمرحلة الثانوية (3) سنوات، والجامعة (4) سنوات، والتعليم الإجباري مدته (9) سنوات.

وتذكر المُعلِّمة "يامادا أسوكا" أن الأطفال اليابانيين يدخلون الصف الأول الابتدائي في شهر أبريل بعد إتمامهم عمر ست سنوات، ويتراوح عدد الطلاب في الصّف الواحد من (30) إلى (40)، ويدرس التلاميذ اللغة اليابانية والحساب والعلوم والدراسات الاجتماعيَّة والموسيقى والحِرَف والتربية البدنيَّة ومجالات الاقتصاد المنزلي كتعليم الطبخ ومهارات الحياكة والفنون التقليديَّة اليابانية، مشيرة إلى أن الكثير من المدارس الابتدائية بدأت بتدريس اللغة الإنجليزية وتكنولوجيا المعلومات التي أصبحت تستخدم لتطوير التعليم، حيث باتت معظم المدارس تستخدم الإنترنت.
وقالت "أسوكا" إن الصفوف الدراسيَّة في المدارس الابتدائية في اليابان تنقسم إلى فرق صغيرة يتم من خلالها ممارسة العديد من النشاطات، حيث يقوم الطلاب بتنظيف الصّفوف والقاعات وفناء المدرسة يوميا، ويتناولون الغذاء معاً في صفوفهم، وتقوم شركات متخصصة بإعداد الوجبات في مطابخ داخل المدرسة، أما الفريق الصغير من الطلاب فيأخذ دوره للمساعدة على إحضار الوجبات من المطبخ وتوزيعه على زملائهم، ويتسم الغذاء المدرسي بأنه غني بالمواد الغذائية الصحية المتنوعة.

وتضيف: "تعقد مسابقات كثيرة خلال السنة الدراسيَّة مثل اليوم الرياضي "الأندوكاي"، وهو يوم مهم للأطفال وعائلاتهم، حيث يحضر كامل العائلة، إضافة إلى أطفال الروضة الذين سيلتحقون بتلك المدرسة في العام التالي بعده، وذلك ليوم كامل، ويشاركون في الفعاليات والرحلات لزيارة المواقع التاريخيَّة والفنون والمهرجانات الثقافيَّة التي تتسم بالرقص وألعاب الأطفال الأخرى، ويقوم الطلاب الذين هم في المراحل الدراسيَّة المُتقدِّمة برحلات إلى مدن ثقافيَّة مثل كيوتو أو نارا، أو منتجعات التزلج على الجليد".

وتشير المُعلِّمة أسوكا إلى أن الأطفال منذ التحاقهم بالمدرسة في الصف الأول الابتدائي يتعلَّمون الادخار، فيودع كل منهم شهريا مبلغا زهيداً يجمع عندما يصلون الصف السادس، ليقوموا برحلة إلى أماكن بعيدة للاستمتاع، وعمل تقارير مُفصَّلة عنها.

ويشير المُعلِّم "هيرواكي" مُدرِّس في مدينة "ناغانو" إلى أن معظم المدارس الإعدادية والثانوية في اليابان تلزم الطلاب بارتداء الزي المدرسي، فالأولاد يرتدون البنطال والجاكيت ذات الياقة القاتمة، والبنات يرتدين التنورة والسترة، ويستمتع الأطفال اليابانيون في أوقات فراغهم بممارسة الألعاب الإلكترونية ونينتندو وكرة القدم والبيسبول، وبعض الأطفال يحبون جمع الصور اللاصقة والرسوم المُتحرِّكة وقراءة المنجا (الكتب الهزلية)، ويستمتع الأطفال أيضا بالاشتراك في النشاطات الموسمية مع أسرهم، وخاصة في الإجازات الصيفية عندما يذهبون إلى حمامات السباحة أو الشواطئ، أو تسلق الجبال والنوم في المخيمات، أما في الشتاء فيتزلجون على الجليد، وغالبا ما يتلقَّى الأطفال اليابانيون دروسا خصوصية في السباحة والآلات الموسيقية أو الفنون أو الفنون التقليديَّة وتربية الحشرات، ولتحسين أدائهم الدراسي يتجهون إلى الدروس الخصوصية ويطلق عليها "جوكو".

ويُؤكِّد "هيرواكي" أن النظام الياباني للتعليم يركز الاهتمام على تنمية الشعور بالجماعة والمسؤوليَّة لدى التلاميذ والطلاب تجاه المجتمع قبل المناهج الدراسيَّة، بدءاً بالبيئة المدرسيَّة المحيطة بهم، مثل المحافظة على المباني الدراسيَّة والأدوات التعليميَّة والأثاث المدرسي وغير ذلك، يقول: "المدارس اليابانية تهتم بالمحافظة على نظافة المدرسة، فأول شيء يلاحظه الزائر وجود أحذية رياضيَّة خفيفة عند مدخل المدرسة مرتبة في خزانة أو رفوف خشبية، يحمل كل حذاء اسم صاحبه، ويجب أن يخلع التلاميذ أحذيتهم العادية، يرتدوا هذه الأحذية الخفيفة النظيفة داخل مبنى المدرسة".

ويضيف: "في المدارس اليابانية أيضًا يقوم التلميذ عند نهاية اليوم الدراسي بكنس وتنظيف القاعات الدراسيَّة، بل وكنس ومسح الممرات بقطع قماش مبللة، وغسل دورات المياه وجمع القمامة وأوراق الشجر المتساقطة في فناء المدرسة، وينضم إليهم المُدرِّسون في أوقات معينة لإجراء نظافة عامة سواء للمدرسة أو للأماكن العامة مثل الحدائق والشواطئ في العطلة الصيفية، بالإضافة إلى ذلك يقوم الأطفال بتقديم الطعام للحيوانات أو الطيور التي تقوم المدرسة بتربيتها، حيث إنه لا توجد شخصيَّة "الحارس" ولا يوجد عمال نظافة، ولذا يقوم التلاميذ والطلاب والمُعلِّمون بتنظيف المدرسة وتجميل مظهريها الداخلي والخارجي، بل يمتد هذا النشاط إلى البيئة المحيطة بالمدرسة أيضًا، في أوقات مُحدَّدة".

ويذكر المُعلِّم "هيرواكي" أنه لا يوجد مقاصف في المدارس اليابانية، ولكن يوجد مطبخ به أستاذة تغذية وعدد من الطاهيات، ويتناول التلاميذ وجبات مطهوة طازجة تُطهى يومياً في مطبخ مدرسة، ووقت الغداء يقوم التلاميذ بتقسيم أنفسهم إلى مجموعات، إحداها تقوم بتهيئة القاعة الدراسيَّة لتناول الطعام، وثانية تقوم بإحضار الطعام من المطبخ، وثالثة توزع هذا الطعام على التلاميذ بعد ارتداء قبعات وأقنعة وملابس خاصة بذلك، وهذا يعلم الإحساس بالمسؤوليَّة والاعتماد على النفس، ويوفر ميزانية كان يُفترض أن تُرصد لهذه الخدمات.

ويضيف: "تتجلى هذه الروح أيضًا في المجموعات الدراسيَّة التي يقوم بتكوينها المُدرِّس عندما يطلب من التلاميذ أو الطلاب حل مسألة مثلاً في الرياضيات، وبعد المشاورات الجماعيَّة بينهم يعلن واحد من هذه المجموعة باسمها الإجابة، وهذا النظام لا يعوّد التلاميذ الروح الجماعيَّة فحسب، بل القيادة التي تتجلى أيضًا في تعيين شخصيَّة مراقب الصّف، والذي يقوم في غياب المُدرِّس بتهيئة الصّف وتنظيمه، وحل مشكلاته، بما فيها المشاكل الناشبة بين التلاميذ أنفسهم".

ويشير "هيرواكي" إلى أنه في نهاية اليوم الدراسي يقوم التلاميذ بعقد جلسة جماعيَّة، يقوِّمون فيها أنفسهم وما قاموا به من أعمال، مؤكدا أن هذه الطريقة في التعليم تعلي قيمة الجماعة وتحمُّل المسؤوليَّة والالتزام والقيادة، كما تشكل أيضًا قوة نفسيَّة رادعة لكبح السلوكيات الاجتماعيَّة غير اللائقة تجاه المجتمع والغير.

 

وفي تقرير أخر يتحدَّث عن اكتشاف الامريكيين لسر التفوُّق الياباني:

يرى بعض المُعلِّمين الامريكيين أن الطلبة اليابانيين يتفوقون لأسباب تتجاوز ما يتعلَّمونه في الصف المدرسي وقد زار الوفد الأمريكي الذي أوفدته الغرفة التجارية والصناعيَّة اليابانية في شيكاغو - المدارس الابتدائية، ومدارس الأحداث العالية، والمدارس العليا (الثانوية) في مدينتي أوساكا ونيجاتا. وقد رأوا صفوفاً مزدحمة ومكدسة، ووسائل تعليم مرئيَّة قليلة، بل والمدهش للغاية أنَّ أجهزة حاسب آلي قليلة للغاية مقارنة بالموجود في مثيلاتها من المدارس الأمريكية.

ويرى "أندريه كير" مدير المدارس العامة في شيكاغو وأحد أعضاء الوفد الأمريكي، أن تناغم الثقافة يسهم إلى حد كبير في الإنجازات الأكاديميَّة، فكل امرئ لديه الهدف نفسه والمتمثل في تحسين حياة الشعب الياباني.

لو تأملت أخي القارئ التقرير ونظام الحياة اليومية وما يقوم به الطالب لوجدتها ثقافة تعزز مفهوم كل من العمل الاجتماعي والعمل التعاوني وهي كلها مفاهيم للتعلُّم السريع بل إن اللبس الموحد عندهم يهدف إلى عدم وجود التميُّز وكأنه يدعو إلى عدم التفوُّق أو تميز شخص من أخر.

وانظر أيضا إلى مسالة تنظيف المدرسة وتجهيز وجبة الغداء. في رأيك ما القيمة التي تزرعها هذه لدى الطلاب؟ وما مدى تأثيرها في حياتهم ونتائجها سواء على المدى القريب أو البعيد؟

إنّها دعوة إلى التأمل والموازنة بين التعليم الياباني والتعليم في بلادنا وما يحصله كل تعليم من نتائج.