أهمية علم النفس للمدرّس.

كان الاعتقاد السائد قديماً هو أن المعلم يكفيه إلمامه بمادته حتى يكون معلماً قديراً. فإذا أراد أحد الناس أن يعلم الحساب فإنه يكفيه أن يكون ملما بأصول الحساب إلماماً تاماً. ولكن فعل التعليم كما قال (جون آدمز) ينصب مفعولين، فإذا قلنا (أُعَلِّمُ محمداً الحسابَ)، ففعل التعليم هنا ينصب محمداً وينصب الحساب. فلاجل أن ينجح المعلم في تعليم محمد الحساب يجب أن يكون ملماً بكل من الحساب ومحمد.



و فوق هذا يكون واقفاً على طريقة إيصال الحساب إلى ذهن محمد، أي أن المدرس يجب عليه أن يكون ملما بثلاثة أشياء هي:

أولاً: مادة الاختصاص أو المادة التي يدرسها.

ثانياً: نفسية التلميذ وعقليته.

ثالثاً: طريقة إيصال هذه المادة إلى هذا التلميذ.

أما الشيء الأول وهو مادة الاختصاص فيتعلمه المعلم عادة قبل بدئه في التهيؤ الفني الحقيقي لمهنة التدريس. وأما الشيء الثاني فيتناول دراسة نفسية التلميذ. وتتبين هنا أهمية علم النفس بالنسبة إلى المدرس. وأما الشيء الثالث فيدخل تحته فن التربية وطرائق التدريس وطبيعي أنني إذا أردت أن أعلم شخصا ما أي علم من العلوم فلابد من معرفة شيء عن نفسية هذا الشخص وعقليته وقدراته واستعدادته. ولابد أيضاً من معرفة الطريق الذي يسلكه عقله في عملية التعليم.

مثل المعلم مثل الطبيب الذي يذهب لمعالجة شخص من مرض أصابه. فلا يكفي الطبيب معرفة أغراض المرض والدواء اللازم، بل لابد له من أن يكون واقفاً على تركيب أعضاء الجسم ووظائفها وعلاقته بعضها بالبعض الآخر. ولابد له من أن يقف على حالة جسم هذا المريض بنوع خاص، حتى يمكنه أن يسير في علاجه على ضوء المعرفة الصحيحة، وإلا كان علاجه تخبطا قد يؤدي إلى النجاح أو إلى عكسه. مثل هذا المعلم كذلك مثل الشخص الذي يريد أن يقود سيارة أو يصلحها، فلابد له من معرفة أجزائها، وعلاقة كل جزء بغيره ووظيفته، إذ تمكنه هذه المعرفة من أن يكون أقدر على قيادة سيارته أو إصلاحها إذا استدعى الأمر ذلك.

كذلك هو شأن المدرس إذا أراد أن يصلح خلق تلميذ أو ينمي مقدرته في ناحية خاصة، فلابد له من فهم عقلية التلميذ وتركيبها وطريقة كسبها للمعرفة والمهارة، وأن يكون على علم بمستواها الطبيعي والمكتسب، وأن يعلم ما يسبب لها التعب أو الراحة، وما يزيد نشاطها وإنتاجها، إلى غير ذلك مما يسهل على المدرس مزاولته مهنته إلى حد كبير.

ويتمكن علم النفس من إيقاف المدرس على خواص العقل العادي في مراحل النمو المختلفة من الطفولة إلى الرجولة. وتمكنه معرفة هذه الخواص من تهيئة الجو والطرائق التي تحيط بالطفل تهيئة تسمح بازدهار قوى الطفل وإستعدادته بصورة تفيده وتقيد المجتمع.

ولعل أهم ما يستفيده المدرس من علم النفس هو معرفة الفروق بين الأفراد، فالمدرس القديم كان ينظر إلى تلاميذه على أنهم متشابهون من حيث القدرة العقلية، و يتوقع أن يكونوا متساوين في تحصيلهم وإنتاجهم، وهذا خطأ فاحش، فقد كشف لنا علم النفس أنه لا توجد قط مجموعة من الناس يمكن أن نسميها متجانسة بكل معنى الكلمة، فكل فرد يختلف عن غيره اختلافات بينة واضحة. وعلى ذلك وجب على المدرس الحديث ألا ينسى في أثناء أدائه وظيفته هذه الفروق العقلية و الخلقية، وبعبارة أخرى وجب عليه أن يذكر أن التلاميذ يختلف بعضهم عن بعض من حيث الذكاء فبينهم الذكي سريع الفهم بطبيعته، وبينهم الغبي بطيء الفهم.  كما أن عليه أن يعلم أنهم يختلفون أيضاً من حيث استعداداتهم للمواد الدراسية المختلفة، فهناك من التلاميذ من عندهم استعداد جيد للغات، بينما يكون استعدادهم للعلوم الهندسية ضعيفاً، وهناك من هم على عكس ذلك وعلى المدرس ألا ينسى الفروق بين التلاميذ من حيث الأمزجة والطبائع والميول وأن يعامل كل تلميذ بما يتفق مع طبائعه وميوله.

ولم يقف علم النفس عند كشف هذه الفروق، بل توصل إلى كشف أصولها. فبعض هذه الفروق بين الأفراد يرجع إلى الوراثة، فكما أن الناس يرثون عن آبائهم الفروق في طول الأنف أو القامة أو لون العينين، كذلك يرثون الفروق في درجة الذكاء، وفي الأمزجة، وفي الطبائع. وترجع بعض هذه الفروق إلى الجنس فللبنت صفات عقلية تختلف عما للولد. وهناك فروق عقلية ترجع إلى الفروق في السن وأخرى ترجع إلى الجنس وهكذا. ومن هذا يعلم المدرس الحد الذي إليه يمكنه التغيير من طباع الشخص أو التحسين في ذكائه، ويعلم أيضا المستوى التعليمي الذي يمكنه أن يوصله إليه وهكذا. وقد توصل علم النفس إلى حل مشكلة تعليمية كبرى وهي مشكلة الشواذ. والشواذهم المتطرفون، أي الذين يختلفون اختلافا بينا عن العادي أو المتوسط. والشواذ إما موهوبون وهم المتصفون بفرط الذكاء. وإما ضعاف عقول وهم المتصفون بنقص الذكاء. وإما شواذ في الخلق وهم غريبو الأخلاق، ويسمى المتطرفون منهم مجانين. ولا يخلو كل فصل عادة من واحد أو أكثر من الشواذ أو القريبين منهم. وكثيرا ماينجم عن وجودهم مشكلات تعليمية، لا يسهل على المعلم تشخيصها ومعالجتها إلا إذا درسها وعرف أسرارها على ضوء اكتشافات علم النفس.

ولكن ما سبق أن علمناه من وجوب معاملة كل فرد معاملة خاصة به لا ينسينا أن الفرد يجب أن يعمل لمصلحة المجتمع وأن يتعامل مع أعضائه. فالشخص في نظر علم النفس فرد يختلف عن بقية الأفراد، وهو فوق ذلك فرد ضمن مجموعة.  ويوقفنا علم النفس كما قلنا على سلوك الفرد كفرد وعلى سلوكه كعضو في مجموعة. وتتبين أهمية هذين الأساسين بوضوح للمدرس الذي يرمي إلى تربية فردية الإنسان وشخصيته ليكون عضواً صالحاً في المجتمع.

كذلك على المدرس أن يعلم أن واجبه هو تهيئة الجو المدرسي لإنماء الصفات الخلقية والعقلية في الفرد إلى أعلى درجة تتفق مع استعداداته وقدراته، ولكن كيف تنمو هذه الصفات؟ وبعبارة أخرى: كيف يتعلم الفرد؟ وهل يتوقف تعلمه من حيث سرعته أو مداه على استعداداته الفطرية، أو على مجهود المدرس؟ وما الشروط اللازم توافرها لضمان السرعة والإتقان في التعليم ثم هل تعلم مادة من المواد يساعد المرء على تعلم مادة أخرى؟ فهل تعلم التاريخ يساعد المرء على تعلم الجغرافيا مثلا؟ وهل تعلم النجارة يسهل على المرء تعلم هندسة السيارات؟ ولقد مكنتنا دراسة علم النفس من معرفة أثر تدريس مادة ما، ومدى الانتفاع بهذا الأثر في ميادين أخرى، سواء كانت في المدرسة أم في الحياة. ونعلم الآن الشروط التي يلزم توافرها حتى ينتفع بأثر تعلم ناحية ما في ناحية أخرى، وبهذا يمكن الاقتصاد في الجهد مع تحقيق أكبر وأوسع فائدة عملية.

زيادة على ما تقدم فإن القائمين بأمر التعليم يلزمهم معرفة أحسن الطرائق لتوزيع فترات العمل و فترات الراحة وطول كل فترة. فإذا كانت فترات العمل المدرسي طويلة جدا نشأ الملل والتعب،  وإذا كانت قصيرة جداً لم يستفد التلميذ الفائدة المطلوبة. كذلك فترات الراحة لا يجوز أن تكون قصيرة فلا تزيل التعب، ولا طويلة فتؤثر في النشاط وتحمس المرء للعمل. فكل من فترة الراحة وفترة العمل لها طول خاص يمكن أن يكشفه لنا علم النفس، ويكون له، لاشك، أثر كبير في تنظيم العمل المدرسي.

وقد تدخل علم النفس فوق ما تقدم في كل مادة تعليمية فحللها إلى عناصرها الأولية من حيث القدرات والعمليات العقليةالتي تتدخل فيها. فقد تناول بالتحليل القراءة، والكتابة والحساب واللغات،  كما تناول بالبحث فنون الرسم والنقش والزخرفة والمواد العملية، وحلل جزءاً كبيراً منها إلى عناصره الأولية عقلية كانت أو يدوية. ومن نتائج هذه البحوث أن صار في استطاعة المدرس أن يعرف ما يناسب التلميذ بحسب استعداداته، وما يناسب التلميذ الواحد في سن دون الأخرى، أو في مرحلة تعليمية دون الأخرى، وفي استطاعته كذلك أن يكون أكثر فهما لأحسن الطرائق لتعليم المواد الدراسية المختلفة.

نرى من كل ما تقدم أن علم النفس هو المرشد الأكبر، أو يكاد يكون هو المرشد الأكبر للمدرس في عمله، سواء في ذلك عمله في الصف من تعليم مهارات عقلية وعملية مختلفة، أو خاج الصف من تربية اجتماعية وخلقية. وعلم النفس يساعد المدرس في محاولاته حل مشكلات التعليم ومشكلات النظام. كذلك يساعد علم النفس القائمين بتوجيه السياسة التعليمية العامة في عملية تنظيم مراحل التعليم المشترك للجميع، ثم مراحل التنويع الذي يستلزم ظهور التنوع في استعدادات التلاميذ وميولهم، إلى غير ذلك من مشكلات.

على أنّه لا يجوز أن نتصور أن المدرس يمكنه عند مواجهة مشكلة صغيرة أو كبيرة أن يجد حلا سريعا محدودا يفسر له مشكلة، وإنما الذي يجب أن يحدث هو أن يعمل المدرس الناشئ على فهم علم النفس فهما يمكنه من اتخاذ موقف متنور نحو التلاميذ، وهذا لا يتأنى إلا عن طريق هضم علم النفس هضماً جيداً، والتشبع بنتائجه تشبُّعاً يحول المدرس إلى ما يشبه الفنان الماهر. والسبب في هذا النوع من التوجيه أن الحلول السريعة المحدودة، وإن كانت تصلح أحياناً في ميادين العلوم المادية كالطبيعة والكيمياء، لا تصلح إطلاقاً في الميادين البشرية كالتعليم والاجتماع والسياسة،  وذلك لتعدد العوامل التي تدخل في كل سلوك، ولمرونة هذه العوامل وقابليتها للتأثر والتغيير.  ولكن دراسة المعلم لهذه العوامل واحتمالات تأثيراتها دراسة جيدة وافية تجعل منه مربياً أقرب إلى الفنان في عمله مع تلاميذه منه إلى أي شيء آخر.

على أننا يجب أن نتذكر أيضاً أن علم النفس علم حديث، وقد كشف لنا كثيراً جداً من الحقائق، غير أن كثيراً من الأمور ما زال غامضاً، ومازال رهن البحث. ومع حداثة العلم فإنه أثبت في السنوات الأربعين الأخيرة مقدرة كبيرة في الأخذ بيد المدرس، وفي حل كثير من المشكلات العلمية العامة والخاصة. وتقدم بالفعل التعليم في البلاد التي آمنت بعلم النفس إيماناً حقيقياً وكان تقدمه واضحاً محسوساً.